تقديس القوة في إسرائيل- صعود اليمين المتطرف وتأثيره على المفاوضات والسلام

في خضم الأحداث الجارية، يبرز سؤال محوري يستدعي التأمل، ألا وهو: كيف يمكننا تقييم موقف حركة حماس من المفاوضات العسيرة الراهنة؟ وكيف نفهم ونحلل الفروق الدقيقة بين المرونة والصلابة في ردود فعلها تجاه المقترحات المطروحة، خصوصًا تلك القادمة من عواصم العدوان على غزة، واشنطن وتل أبيب؟
قد تعكس الاحتجاجات المتصاعدة المناهِضة للحرب داخل إسرائيل صورةً مُضللة للرأي العام العالمي، مُصوِّرةً المجتمع الإسرائيلي على أنه مُنشقٌ بشأن الحرب، بدافعٍ أخلاقي أو نزعة إنسانية نحو السلام.
يبقى السؤال الجوهري دون إجابة شافية: هل كان هذا الانقسام ليحدث لولا وجود أسرى ورهائن إسرائيليين في قبضة المقاومة؟ بمعنى آخر، ما هي توقعاتنا لردة فعل الشارع الإسرائيلي لو لم تكن الفصائل الفلسطينية تمتلك هذه الورقة الرابحة؟
يقول دونيل هارتمان، رئيس معهد شالوم هارتمان ومقدم برنامج "من أجل السماء"، أحد أشهر البرامج الصوتية اليهودية في أمريكا الشمالية: "تتطلب الصهيونية والدولة اليهودية احتضان القوة وتقديرها. فبدون القوة، لم تكن إسرائيل لتقوم أبدًا، وما كانت لتنجو في الشرق الأوسط المعادي."
في بداياتها، كانت قوة إسرائيل هشة، أقرب إلى الطموح، ولكن في أعقاب الانتصار الساحق في حرب عام 1967، تجسدت القوة الغاشمة في واقع إسرائيل وأصبحت جزءًا لا يتجزأ منه.
الأدهى من ذلك، أن القوة أصبحت تحدد الهوية الوطنية لإسرائيل، إذ تحولت قوة إسرائيل إلى مغناطيس يجذب الدعم من كل أنحاء العالم، ويضع إسرائيل في صميم الوعي اليهودي.
لقد أشعلت فتيل شعور جديد بالفخر والاعتزاز بالهوية اليهودية، وأعادت صياغة مكانة ليس إسرائيل فحسب، بل الشعب اليهودي برمته، كقوة فاعلة ومؤثرة على الساحة العالمية، كما صرح هارتمان.
في إسرائيل اليوم، نشهد حربًا ضروسًا على الهوية الثقافية، صراعًا محتدمًا حول مستقبل هوية إسرائيل والقيم اليهودية التي ستجسدها. تتصاعد قوى جديدة، مستندة إلى نصوص وآيات من الكتاب المقدس، لتمجيد القوة بأساليب غير مسبوقة، وتعتبر المبادئ الأخلاقية المفروضة على جيش الدفاع الإسرائيلي ضربًا من الضعف والهزيمة. إنهم يقدسون قوة إسرائيل باعتبارها تجسيدًا لإرادة الله.
لا شيء يجسد العودة إلى "تقديس القوة" في إسرائيل أكثر من الانتخابات الأخيرة، وبروز السياسي القومي المتطرف، إيتمار بن غفير، وحزبه "عوتسما يهوديت"، الذي يعني حرفيًا "القوة اليهودية". وكما يعكس اسم الحزب، فإن أعضائه يرون في تقديس القوة هدفًا ساميًا، ويحتفون بممارستها.
كما أعلن بن غفير بكل فخر ليلة الانتخابات، أن نجاحه سيعيد اليهود إلى مكانتهم الشرعية كـ "أصحاب" البلاد. وفي رؤيته، ورؤية أتباعه، فإن السلطة على الآخرين – غير الإسرائيليين، ومن الإسرائيليين غير اليهود – هي حق وطني مقدس.
تنظر أقلية من التيار الذي يوصف بـ "التنويري"، داخل الكتلة الصلبة من المجتمع اليهودي، وفي ظل غياب اليقين بشأن مستقبل إسرائيل كدولة، إلى أن أفعال إسرائيل لا تزال تندرج ضمن سردية القوة الواردة في سفر التكوين، والتي تفترض أن إسرائيل هي التي ستخوض الحرب، لكن الله هو الذي يقاتل عنها. ونتيجة لذلك، ورغم تحريم القتل، فإن جميع هذه الحروب تعتبر مُباحة ومُستحقة.
إن تقديس القوة في إسرائيل ليس مجرد نزعة هامشية، بل هو توجه جماعي يختبر نفسه بتلقائية، من خلال صعود قوى اجتماعية تدفعها التطورات، ومن خلال التحالفات والانتخابات، التي أظهرت نتائجها الأخيرة أن أعدادًا متزايدة من الإسرائيليين يعتبرون قوة الدولة "هبة من الله"، وأن أعداء إسرائيل هم أعداء الله أنفسهم.
ليس من باب المصادفة أن يتحالف حزب "عوتسما يهوديت" مع الحزب الديني القومي، ويترشحان ضمن قائمة موحدة. وكما يقول رئيس معهد شالوم هارتمان، "هذه العقلية تخلق جوًا لا تُعلَى فيه حقوق (أعداء الله) أبدًا."
في عام 2015، كشف استطلاع للرأي نشرته "مجلة 972+" الإسرائيلية، تحت عنوان "الإسرائيليون لا يفهمون إلا القوة"، معلقةً عليه بالقول: "نظرة واحدة على الانتخابات في العقد الأخير تظهر أنه منذ الانتفاضة الثانية، صوت الإسرائيليون بشكل شبه دائم للحكومات اليمينية، ولا ينفصل هذا عن التصور بأن الرؤى السياسية اليسارية غير ذات صلة في مواجهة ما يعتبره الجمهور عنفًا فلسطينيًا حصريًا."
ميراف زونسزين، المحللة البارزة للشؤون الإسرائيلية في مجموعة الأزمات الدولية، كتبت في أبريل/نيسان 2024 في مجلة "فورين بوليسي" محذرة من الاستغلال المخادع للمظاهرات الإسرائيلية الأخيرة في تلميع صورة المجتمع الإسرائيلي، ووصفه بأنه مجتمع "إنساني".
وأشارت في هذا السياق إلى أن آلاف الإسرائيليين الذين خرجوا للتظاهر في الشوارع لا يعترضون على الحرب في جوهرها، باستثناء قلة ضئيلة من الإسرائيليين واليهود. إنهم لا يطالبون بوقف إطلاق النار أو إنهاء الحرب أو تحقيق السلام. إنهم لا يحتجون على قتل إسرائيل أعدادًا غير مسبوقة من الفلسطينيين في غزة أو على القيود المفروضة على المساعدات الإنسانية التي أدت إلى مجاعة جماعية، بل إن بعض الإسرائيليين اليمينيين يذهبون إلى أبعد من ذلك بمنع المساعدات من دخول القطاع.
إنهم بالتأكيد لا يطالبون بإنهاء الاحتلال العسكري الذي دخل عامه السابع والخمسين. إن محور احتجاجهم الأساسي هو رفض نتنياهو التنحي، وما يعتبرونه تلكؤًا منه في إبرام صفقة لتبادل الرهائن.
تغيير القيادة لن يؤدي بالضرورة إلى تغييرات جوهرية في السياسات. فلو أصبح بيني غانتس، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق ورئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي، والذي يحظى بتأييد واسع في استطلاعات الرأي مقابل نتنياهو، رئيسًا للوزراء، فمن غير المرجح أن يتبنى سياسات تجاه الفلسطينيين تختلف اختلافًا جوهريًا عن سياسات نتنياهو، على حد تقديرات زونسزين.
إن إلقاء اللوم على نتنياهو – الذي يرفض مغادرة الحياة السياسية الإسرائيلية رغم محاكمته بتهم الفساد ورئاسته البلاد خلال أسوأ كارثة في تاريخها – قد طغى على حقيقة أن العديد من الإسرائيليين، فيما يتعلق بالسياسات الإسرائيلية تجاه غزة تحديدًا، والفلسطينيين عمومًا، يؤيدون نتنياهو بشكل قاطع. إنهم يؤيدون بأغلبية ساحقة الحملة العسكرية الحالية في غزة وهدف الحكومة المتمثل في تدمير حماس، مهما كانت الخسائر البشرية للفلسطينيين في قطاع غزة.
في الكواليس، يصر بعض المحللين الإسرائيليين على أن إسرائيل لم تقدم تنازلات أو تنخرط في مفاوضات سلام إلا بعد خوضها حروبًا. فحرب يوم الغفران عام 1973 أدت إلى مفاوضات كامب ديفيد الأولى عام 1977، وفي نهاية المطاف إلى اتفاقية السلام مع مصر. الانتفاضة الفلسطينية الأولى دفعت إسحاق رابين إلى إدراك أن الاحتلال يجب أن ينتهي في نهاية المطاف، والسعي إلى اتفاق أوسلو. الانتفاضة الثانية دفعت إسرائيل إلى الانسحاب جزئيًا من قطاع غزة.
في كتابه الأكثر تفصيلاً حول الرأي العام خلال الانتفاضة الثانية، أظهر خبير استطلاعات الرأي الفلسطيني المخضرم خليل الشقاقي والأكاديمي الإسرائيلي يعقوب شامير أنه خلال السنوات الأكثر عنفًا في الانتفاضة الثانية، ارتفع الدعم الشعبي لبعض التنازلات، مثل الانسحاب من المستوطنات، وبرزت خطة أرييل شارون لفك الارتباط من غزة في هذا التوقيت وحظيت بدعم كبير.
تشير التجارب إذن إلى أن الجزء الأكبر من المجتمع الإسرائيلي يميل إلى تبني سلوك وحشي ومتوحش، ولا يفهم سوى "لغة القوة". ولولا وجود الأسرى لدى حماس، لما خرج من بين ظهرانيه من يحتج على المذابح التي يرتكبها جيشه في حق المستضعفين من الشعب الفلسطيني، ولن يقبل بتقديم تنازلات، إلا بعد أن يتم "ابتزازه" بما يؤلمه من أوراق.